سورة الذاريات - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الذاريات)


        


ولما ثبت أنه لا ملجأ إلا إلى الله الواحد المنزه عن الزوج، وذلك هو الله الذي له الكمال كله، وكان ربما وقع في وهم أن في الوجود من غير الزوجين المعروفين من نفزع إليه كما نفزع إلى وزير الملك وبوابه ونحو ذلك مما يوصل إليه، قال محذراً من سطواته: {ولا تجعلوا} أي بأهوائكم {مع الله} وكرر الاسم الأعظم ولم يضمر تعييناً للمراد لأنه لم يشاركه في التسمية به أحد وتنبيهاً على ما له من صفات الكمال وتعميماً لوجوه المقاصد لئلا يظن، وقيل معه إن المراد النهي عن الجعل من جهة الفرار لا من جهة غيرها {إلهاً}.
ولما كان المراد كمال البيان، منع مجاز التجريد منع تعنت من يطعن بتكثير الأسماء كما أشار إليه بقوله: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} الآية بقوله: {آخر} ثم علل النهي مع التأكيد لطعنهم في نذارته فقال: {إني لكم منه} أي لا من غيره فإن غيره لا يقدر على شيء {نذير} أي محذر من الهلاك الأبدي بالعقوبة التي لا خلاص منها إن فعلتم ذلك {مبين} أي لا أقول شيئاً من واضح النقل إلا ودليله ظاهر من صريح العقل. ولما ذكر قولهم المختلف الذي منه تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى السحر والجنون وغير ذلك من الفنون، ومنه الإشراك مع اعترافهم بأنه لا خالق إلا الله ولا كاشف ضر غيره إلى غير ذلك من أنواع الاضطراب، وأخبر بهلاكتهم على ذلك وحذرهم منه ودل عليه إلى أن ختم بإنذار من اتخذ إلهاً غيره قال مسلياً: {كذلك} أي مثل قول قومك المختلف العظيم الشناعة، البعيد من الصواب، بما له من الاضطراب، وقع لمن قبلهم، ودل على هذا المقدر بقوله مستأنفاً: {ما أتى الذين} ولما كان الرسل إنما كان إرسالهم في بعض الأزمان الماضية ولم يستغرقوا جميعها بالفعل، أثبت الجارّ في قوله: {من قبلهم} وعمم النفي بقوله: {من رسول} أي من عند الله {إلا قالوا} ولو بعضهم برضا الباقين: {ساحر أو مجنون} لأن الرسول يأتيهم بمخالفة مألوفاتهم التي قادتهم إليها أهواؤهم، والهوى هو الذي أوجب لهم هذا التناقض الظاهر سواء كانت {أو} للتفصيل بأن بعضهم قال واحداً وبعضهم قال آخر، أو كانت للشك لأن الساحر يكون لبيباً فطناً آتياً بما يعجز عنه كثير من الناس، والمجنون بالضد من ذلك، ثم عجب منهم بقوله: {أتواصوا به} أي أوصى بهذا بعض الأولين والآخرين بعضاً.
ولما ساق هذا في أسلوب الاستفهام إشارة إلى قول ينبغي السؤال عن سببه لما له من الخفاء، أجاب عنه بأنهم لم يتواصوا به لأن الأولين ما اجتمعوا مع الآخرين: {بل هم} اجتمعوا في وصف أداهم إلى ذلك.
وهو أنهم {قوم} أي ذوو شماخة وكبر {طاغون} أي عالون في الكفر مسرفون في الظلم والمعاصي مجاوزون للمقدار، وأشار بالضمير إلى أن الطغيان أمر ذاتي لهم، فهو يمدح منه سبحانه بأنه هو الذي قهرهم بسوقهم إلى هلاكهم بقدرته التامة وعلمه الشامل.
ولما كان صلى الله عليه وسلم، يكاد يتلف نفسه الشريفة- بأبي هو وأمي- غماً عليهم وأسفاً لتخلصهم عن الإسلام وخوفاً أن لا يكون وفى بما عليه من التنبيه والإعلام، سبب تعالى عن حالهم قوله: {فتولَّ عنهم} أي كلف نفسك الإعراض عن الإبلاغ في إبلاغهم بالمجادلة والصدع بالتغليظ بعد ما تقدم منك من الإبلاغ {فما أنت} بسبب الإعراض بعد الإنذار {بملوم} أي بمستحق الملامة بسبب إعراض من أعرض منهم عنك، فإني إنما حكمت بذلك لأني إنما قسمت الناس إلى مؤمن تنفعه الذكرى، وطاغ لا ينفعه شيء، ولذلك قال: {وذكر} أي بالرفق واللين، ولما أصروا على التكذيب والإعراض حتى أيس منهم، أكد ما سببه عن التذكير بقوله: {فإن الذكرى} أي التذكر بالنذارة البليغة {تنفع المؤمنين} أي الذين قدر الله أن يكونوا عريقين في وصف الإيمان ولا بد من إكثار التذكير ليغلب ما عندهم من نوازع الحظوظ وصوارف الشهوات، مع ما هم مجبولون عليه من النسيان.


ولما كان هذا ربما أوهم أن سواهم غير مقدور عليهم، قال مؤكداً بالحصر دالاًّ على أنه هو الذي قسم الناس إلى طاغين ومؤمنين بالعطف على ما تقديره: فما حكم عليهم بذلك الضلال والهدى غيري، وما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب إلا لاستخلاص المؤمنين وإقامة الحجة على الضالين: {وما خلقت الجن والإنس} الذين أكثرهم كافرون {إلا ليعبدون} أي لينجروا تحت أقضيتي على وجه ينفعون به أنفسهم أو يضرونها لا لشيء يلحقني أنا منه شيء من نفع أو ضرر، فإني بنيتهم على العجز وأودعتهم نوازع الهوى، وركبت فيهم غرائز فهيأتهم لاتباع الهدى، فمن أطاع عقله كان عابداً لي فارّاً إليّ مع جريه تحت الإرادة، عبادة شرعية أمرية يستفيد بها الثواب، ومن أطاع الهوى كان عابداً لي مع مخالفته أمري عبادة إرادية قسرية يستحق بها العقاب، وكل تابع لهواه إذا حقق النظر علم أن الخير في غير ما هو مرتكبه، فما ألزمه ما هو فيه مع علمه بأن غيره خير منه إلا قهر إرادتي، فهذه عبادة لغوية، وذاك عبادة شرعية، وقد مر في آخر هود ما ينفع هنا، وهذا كله معنى قول ابن عباس: إلا ليقروا لي بالعبادة طوعاً وكرهاً.
ولما حصر سبحانه خلقهم في إرادة العبادة، صرح بهذا المفهوم بقوله: {ما أريد منهم} أي في وقت من الأوقات، وعم في النفي بقوله: {من رزق} أي شيء من الأشياء على وجه ينفعني من جلب أو دفع، لأني منزه عن لحاق نفع أو ضر، كما يفعل غيري من الموالي بعبيدهم من الاستكثار بغلاتهم والاستعانة بقواتهم لأني الغني المطلق وكل شيء مفتقر إليّ {وما أريد} أصلاً {أن يطعمون} أي أن يرزقوني رزقاً خاصاً هو الإطعام، وفيه تعريض بأصنامهم فإنهم كانوا يعملون معها ما ينفعها ويحضرون لها الأكل، فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام. ثم لا يصدهم ذلك، وهذه الآية دليل على أن الرزق أعم من الأكل، والتعبير بالإرادة دالّ على ما قلت إنه مقصود بالعبادة. وهو الجري تحت الإرادة، تارة بموافقة الشرع وتارة بمخالفته.
ولما كان الاهتمام بأمر الرزق- وقد ضمنه سبحانه- شاغلاً عن كثير من العبادة، وكان الإنسان يظن أن الذي حصل له ما حواه من الرزق سعيه، قال حاصراً ذلك مؤكداً إزالة لتلك الظنون معللاً لافتاً الكلام إلى سياق الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره، نصاً على المراد وبالغاً من الإرشاد أقصى المراد: {إن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال المنزه عن شوائب النقص {هو} أي لا غيره {الرزاق} أي على سبيل التكرار لكل حي وفي كل وقت. ثم وصفه بما يبين هوان ذلك فقال: {ذو القوة} أي التي لا تزول بوجه {المتين} أي الشديد الدائم الشدة.
ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم، ودل على ذلك حتى بجميع قصد أحوالهم على إرادته. وختم بقوته التي لا حد لها، سبب عن ذلك إيقاعه بالمتوعدين، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم: {فإن للذين ظلموا} أي الذين أوقعوا الأشياء في غير مواقعها. ولما كان القسم على ما يوعدون بما يحمل المطر، عبر عن نصيبهم الذي قدره عليهم من ذلك بقوله: {ذنوباً} أي خطاً من العذاب طويل الشر، كأنه من طوله صاحب ذنب وهو على ذنوبهم {مثل ذنوب أصحابهم} أي الذين تقدم ظلمهم بتكذيب الرسل وهو في مشابهته له كالدلو الذي يساجل به دلو آخر، وذلك دليل واضح على أن ما يوعدون صادق، وأن الدين واقع {فلا يستعجلون} أي يطلبوا أن آتيهم به قبل أوانه اللاحق به، فإن ذلك لا يفعله إلا ناقص، وأنا متعال عن ذلك لا أخاف الفوت ولا يلحقني عجز ولا أوصف به، ولا بد أن أوقعه بهم في الوقت الذي قضيت به في الأزل، لأنه أحق الأوقات بعقابهم لتكامل ذنوبهم، وحينئذ تكون فيا له من تهديد ما أفظعه، ووعيد ما أعظمه وأوجعه، أمراً لا يدفعه دافع، ولا يمنع من وقوعه مانع، ولذلك سبب عنه قوله: {فويل} أي شر حال وعذاب يوجب الندب والتفجع {للذين كفروا} أي ستروا ما ظهر من هذه الأدلة التي لا يسع عاقلاً إنكارها {من يومهم} إضافة إليهم لأنه خاص بهم دون المؤمنين {الذي يوعدون} في الدنيا والآخرة، وقد انطبق آخرها على أولها بصدق الوعيد، وثبت بالدليل القطعي لك القسم الأكيد- والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

1 | 2 | 3